السوق العتيق

ارتبط ماضي هذا السوق بتاريخ الاقتطاع الخازني في المنطقة، وقد شجعت على بنيانه النهضة العمرانية التي أحدثها الأمير فخر الدين في عهده من مدّ الجسور إلى تشييد الخانات والقلاع… كما رعى زراعة التوت وصناعة الحرير، واهتم الخازنيون في مقاطعتهم التي ولاّهم عليها في الأصل الأمير فخر الدين بهذه الصناعة وتجارتها حتى اشتهر سوق الزوق الذي شكّل عاصمة المقاطعة الخازنية كمركز “لميزان الحرير” تتحدد فيه أسعار الشرانق وتُبتدَع في دكاكينه المنسوجات اليدوية.

ورث ابن الشدياق سركيس الخازن من أجداده، إرثًا عمرانيًّا في الزوق وكسروان بين سنتي 1808 و1822 حيث كان السوق قد قطع شوطًا مهمًّا في الازدهار حتى أصبح الاشراف على ميزان الحرير في هذا السوق حقًّا من حقوقه، وللأمر أهمية قصوى لأنّ ميزان الحرير “كالبورصة” يعود إليه الحكم في تحديد أسعار الحرير البلدي. هذا المركز التجاري المرموق أهّل السوق لأن يكون “بندر المنطقة” الكسروانية أي سوقها التجاري الأساسي، وأُطلِقَتْ على الزوق في القرن التاسع عشر تسمية “بلدة التجارة”. إتّخذ السوق أهمية سياسية بسبب موقعه الاقتصادي، فبات عرضة للتجاذبات السياسية الداخليّة، تتصارع القوى السياسية في الجبل اللبناني على أخذ دوره أو الإمساك بادارته.

 

تميّز السوق بحِرَفِه المتنوعة كالحياكة والسكافة والنجارة وصناعة الأواني الكنسية والصياغة وتقطير العرق، اشتهر في كونه السوق الذي يصبّ فيه إنتاج كسروان من الحرير فيتمّ تصنيعه على الأنوال، فبات سوق الزوق بفعل هذه الدورة الاقتصادية مقصد الناس يأتونه لبيع مواسمهم وللتبضّع مما تحوكه الأنوال من أوجه الكراسي والاثاث المنزلي والعباءات والأكياس وجهاز العرايس… ولم تقتصر هوية قاصديه على اللبنانيين بل شمل السوريين والأتراك أيضًا، وجذبت شهرته في حياكة الحرير السُيّاح الأجانب.

يرى القدماء في البلدة أنّ أكثر الأنوال كانت تتوزّع على السوق الفوقاني الذي تصطفّ دكاكينه على جهتي الطريق الداخلية الممتدة من طلعة مبنى البلدية القديمة إلى حدود “الحديقة العامة”. تتركّز دكاكين السكافة في وسط هذا السوق، وتتميّز بضيق مساحتها وكثرة الضجيج الذي يُحدِثُه ضرب المطرقة على النعل… تفرّدت حرفة السكافة في الزوق بمنهج يدوي خاص، فبعدما تتمّ خياطة “نعل” الحذاء بالقماشة التي تشكّل واجهته، يُصار إلى وضعه في قالب من خشب، ثم يُنتَزَعُ الحذاء بالمقلوب بشكل تصبح الخياطة في الجانب الداخلي من الحذاء وهذا ما يعطيه قيمته وجماليته. يُروى أنّ أحد الخازنيين سافر إلى إنكلترا فاضطر هناك إلى إصلاح حذائه المصنوع في الزوق، ولما رأى “الكندرجي” الإنكليزي أنّ الخياطة مبطّنة في داخل الحذاء دُهِشَ واستفسر عن منهج صناعته… وعلى هذا الأساس المعمول به في الزوق صُمِّمَت أولى الالات الإنكليزية لصناعة الأحذية.

 

أجاد الاسكافيون في الزوق صناعة الحذاء المعكوف من الامام، كما نجحوا في تنويع تصاميم أشكال أحذية النساء، فتعاونوا مع الحائكين الذين ينسجون الأقمشة المذهّبة والمزركشة المصنوعة خصيصًا للأحذية. تؤمِّن محلات السكافة في السوق الفوقاني الأحذية لمعظم أهالي كسروان وقاطع بكفيا. تنتشر إلى جانب محلاتهم الصغيرة والمتقاربة بعضها إلى بعضها الآخر دكاكين الأنوال.

 

تغيّرت معالم “السوق الفوقاني” بعدما تراجعت في بداية القرن العشرين حِرفة السكافة إلى حدّ الاضمحلال نتيجة ارتكاز هذه الحِرفة لاحقًا على العمل الآلي الحديث، دفع هذا الفراغ إلى تحويل بعض الدكاكين إلى منازل سكنية علمًا أنّ بيوتًا زوقية قديمة كانت تمتد خلف صفي الدكاكين لجهتي وادي حنتوش وكنيسة مار ضوميط. في خط موازٍ “للسوق الفوقاني” يمتدُّ “السوق التحتاني” وهو يضمّ دكاكين تبيع المواد الغذائيّة على أنواعها والأقمشة والعرق البلدي والأدوات المنزلية والزراعية والكنسية وفيه صيدلية ومحلات صاغة، يتوسّط هذا السوق “الخان” تقابله “القهوة” تستظلّ شجر “الميسه” وقد اشتهرت بتقديم شراب “الليموناضة” وماء الورد الصافي وكأس العرق مع مازة “قضامي صفرا” يسهر الزوقيون فيها ومن بينهم الشاعر الياس أبو شبكة على قصص الزير وعنترة يقرأها “الحكواتي”. ويجمع السوق التحتاني أيضًا صناعة أثاث المنازل، ومطبعة، ومحلات الصاغة وصناعة الأواني الكنسية كالمباخر والكؤوس. شكّل “السوق التحتاني” عصب الحركة التجارية في الزوق، لأنّ فيه ميزان الحرير أو “قبّان الحرير” كما يسميه القدماء.

 

لا شكّ أنّ سوق الزوق ذاع صيته لشهرة أبنائه “بالحياكة”، وقد أُصيبت حركته التجارية في الصميم حين تراجع الاهتمام “بالنول اليدوي”، وتمّ استبداله بالآلة السريعة، وزاد في تراجعه الهجرة الكثيفة التي عرفتها البلدة في الحرب العالمية الأولى، وسرقت بيروت العاصمة المركزية للبنان في عهد الاستقلال وهجه ومعظم إمكانات ازدهاره.

أنقذ المجلس البلدي برئاسة المحامي نهاد نوفل السوق بعدما بدأت دكاكينه بالانهيار فتمّت المحافظة على الأثر التاريخي بترميمه بدءًا من العام 1988 ونشطت فيه الحركة السياحية بعدما افتتحه رئيس الجمهورية الياس الهراوي في 11 آب سنة 1995، واشتهر سوق الزوق بحلته الجديدة وبوجهه التراثي لجهة المحافظة على دكاكينه وفق أسلوب العمران اللبناني، أو لجهة بيع الأشغال اليدوية الجديدة، وقد بُنِيَ على مدخليه سنة 1995 بوابتين حجريتين كبيرتين، تقليدًا لأسلوب هندسة مداخل الأسواق الشرقية.

 

انتشرت في السوق التحتاني المطاعم والمقاهي، تتوزّع في أنحائها الطاولات والكراسي في ظل “نوافير” المياه وأحواض الزهور وأشجار “الميسه” التي اعتنت بها الأيادي على أنّها من الأشجار التراثية في الزوق.

وتحوّلت الأقبية العتيقة إلى جلسات أُنس وسهر وشرب كأس من الخمر… تُنير هذه الحركة السياحية أضواء تشع في ليل السوق قناديل من النور الرومانسي يضفي على حجارته سحر التمايز، وعلى زواياه الخضر لمعانًا وبهجة زهور.جذب السوق بحلته الجديدة الآلاف يتدفقون إليه للراحة والاسترخاء وتمضية ليالي السمر.

 

ساعد في جذب الناس إليه تحويله إلى المشاة فقط، فكان مشروعًا رياديًّا في لبنان، يذكّر بتجارب أوروبيّة تُبعِدُ تلوث السيارات عن أحجار الأسواق القديمة.

بقيت الزوق تجذب الزوار لأحيائها المهرجانات الشعبية في عيد العشاق ومعارض الصيف ولاختزانها منتوجات الحرف اليدوية، ومن أهمها ما يبدعه “النول الزوقي” من روائع فنية.